سورة الحديد - تفسير تفسير الثعلبي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الحديد)


        


{سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (2) هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (3) هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (4) لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (5) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (6) آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ (7) وَمَا لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (8)}
{سَبَّحَ للَّهِ مَا فِي السماوات والأرض وَهُوَ العزيز الحكيم * لَهُ مُلْكُ السماوات والأرض يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * هُوَ الأول والآخر والظاهر والباطن} يعني {هُوَ الأول} قبل كل شيء بِلا حَد ولا ابتداء، كان هو ولا شيء موجود {والآخر} بعد فناء كل شيء {والظاهر} الغالب العالي على كل شيء، وكل شيء دونه {والباطن} العالم بكل شيء، فلا أحد أعلم منه.
وهذا معنى قول ابن عباس.
وقال ابن عمر: الأول بالخلق والآخر بالرزق، والظاهر بالاحياء والباطن بالإماتة.
وقال الضحّاك: هو الذي أول الأول وآخر الاخر، وأظهر الظاهر وأبطن الباطن.
مقاتل بن حيان: هو الأول بلا تأويل أحد، والآخر بلا تأخير أحد والظاهر بلا إظهار أحد والباطن بلا إبطان أحد.
وقال يمان: هو الأول القديم، والآخر الرحيم، والظاهر الحليم، والباطن العليم.
وقال محمد بن الفضل: الأول ببرّه والآخر بعفوه، والظاهر بإحسانه والباطن بسرّه.
وقال أبو بكر الوراق: هو الأول بالأزلية والآخر بالأبدية، والظاهر بالأحدية والباطن بالصمدية.
عبد العزيز بن يحيى: هذه الواوات مقحمة والمعنى: هو الأول الآخر الظاهر الباطن، لأن من كان منا أولا لا يكون آخراً، ومن كان ظاهراً لا يكون باطناً.
وقال الحسين بن الفضل: هو الأول بلا ابتداء، والآخر بلا إنتهاء، والظاهر بلا إقتراب، والباطن بلا إحتجاب.
وقال القناد: الأول السابق إلى فعل الخير والمتقدم على كل محسن إلى فعل الإحسان، والآخر الباقي بعد فقد الخلق، والخاتم بفعل الإحسان، والظاهر الغالب لكل أحد، ومن ظهر على شيء فقد غلبه، والظاهر أيضاً: الذي يعلم الظواهر ويشرف على السرائر، والظاهر أيضاً: ظهر للعقول بالإعلام وظهر للأرواح باليقين وإن خفي على أعين الناظرين، والباطن الذي عرف المغيّبات وأشرف على المستترات، والباطن أيضاً: الذي خفي عن الظواهر فلم يدرك إلاّ بالسرائر.
وقال السدي: الأول ببرّه إذ عرّفك توحيده، والآخر بجوده إذ عرّفك التوبة على ما جنيت، والظاهر بتوفيقه إذ وفقك للسجود له، والباطن بستره إذ عصيته فستر عليك.
وقال ابن عطاء: الأول بكشف أحوال الدنيا حتى لا يرغبوا فيها، والآخر بكشف أحوال العقبى حتى لا يشكّوا فيها، والظاهر على قلوب أوليائه حتى يعرفوه، والباطن عن قلوب أعدائه حتى ينكروه.
وقيل: الأول قبل كل معلوم، والآخر بعد كل مختوم، والظاهر فوق كل مرسوم، والباطن محيط بكل مكتوم.
وقيل هو الأول بإحاطة علمه بذنوبنا قبل وجود ذنوبنا، والآخر بسترها علينا في عقبانا، والظاهر بحفظه إيانا في دنيانا، والباطن بتصفية أسرارنا وتنقية أذكارنا.
وقيل: هو الأول بالتكوين، بيانه قوله: {إِنَّمَآ أَمْرُهُ إِذَآ أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ} [يس: 82] والآخر بالتلقين، بيانه قوله: {يُثَبِّتُ الله الذين آمَنُواْ}
[إبراهيم: 27] الآية.
والظاهر بالتبيين بيانه {يُرِيدُ الله لِيُبَيِّنَ لَكُمْ} [النساء: 26] والباطن بالتزيين بيانه {وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات: 7].
وقال محمد بن علي الترمذي: الأول بالتأليف والآخر بالتكليف والظاهر بالتصريف، والباطن بالتعريف.
قال الجنيد: هو الأول بشرح القلوب، والآخر بغفران الذنوب، والظاهر بكشف الكروب، والباطن بعلم الغيوب.
وسأل عمر كعباً عن هذه الآية فقال: معناها أن علمه بالأول كعلمه بالآخر وعلمه بالظاهر كعلمه بالباطن.
وقيل: هو الأول بالهيبة والسلطان، والآخر بالرحمة والاحسان، والظاهر بالحجة والبرهان، والباطن بالعصمة والامتنان.
وقيل: هو الأول بالعطاء، والآخر بالجزاء، والظاهر بالثناء، والباطن بالوفاء.
وقيل: هو الأول بالبرّ والكرم، والآخر بنحلة القسم، والظاهر باسباغ النعم، والباطن بدفع النقم.
وقيل: هو الأول بالهداية، والآخر بالكفاية، والظاهر بالولاية، والباطن بالرعاية.
وقيل: هو الأول بالانعام، والآخر بالاتمام، والظاهر بالاكرام، والباطن بالالهام.
وقيل: هو الأول بتسمية الأسماء، والآخر بتكملة النعماء، والظاهر بتسوية الأعضاء، والباطن بصرف الأهواء.
وقيل: هو الأول بإنشاء الخلائق، والآخر بافناء الخلائق، والظاهر باظهار الحقائق، والباطن بعلم الدقائق.
وقال الواسطي: لم يدع للخلق نفساً بعد ما أخبر عن نفسه أنه الأول والآخر والظاهر والباطن.
وسمعت أبا عبد الرحمن السلمي يقول: سمعت أبا بكر الرازي يقول: سمعت الشبلي يقول: في هذه الآية أشياء ساقطة فإني أول آخر ظاهر باطن.
{وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} أخبرنا شعيب بن محمد أخبرنا مكي بن عبدان أخبرنا أحمد بن الأزهر حدّثنا روح بن عبادة، حدّثنا سعيد عن قتادة قال: ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم بينما هو جالس في أصحابه إذ أتى عليهم سحاب فقال: «هل تدرون ما هذا؟» قالوا: الله ورسوله أعلم.
قال: «هذا العنان هذا روايا الأرض يسوقه الله عزّوجل إلى قوم لا يشكرونه ولا يدعونه».
ثم قال هل تدرون ما فوق ذلك؟
قالوا: الله ورسوله أعلم.
قال: «فإنها الرقيع موج مكفوف وسقف محفوظ».
قال: «فكم تدرون بينكم وبينها؟».
قالوا: الله ورسوله أعلم.
قال: «فإن بينكم وبينها مسيرة خمسمائة سنة».
قال: «هل تدرون ما فوق ذلك؟».
قالوا: الله ورسوله أعلم.
قال: «فإن فوقها سماء أخرى بينهما مسيرة خمسمائة سنة» حتى عدّد سبع سماوات بين كل سماءين مسيرة خمسمائة سنة.
ثم قال: «هل تدرون ما فوق ذلك؟» قالوا: الله ورسوله أعلم.
قال: «فإن فوق ذلك العرش وبينه وبين السماء السابعة مثلما بين سماءين».
ثم قال: «هل تدرون ما الذي تحتكم؟» قالوا: الله ورسوله أعلم.
قال: «فإنها الأرض».
قال: «فهل تدرون ما تحتها؟» قالوا: الله ورسوله أعلم.
قال: «فإن تحتها أرضاً أخرى وبينهما مسيرة خمسمائة سنة حتى عدّد سبع أرضين بين كل أرضين مسيرة خمسمائة سنة»، ثم قال: والذي نفس محمد بيده لو دليتم أحدكم بحبل إلى الأرض السابعة السفلى لهبط على الله «ثم قرأ {هُوَ الأول والآخر والظاهر والباطن وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}».
ومعناه بالعلم والقدرة والخلق والملك.
أخبرنا عبد الله بن حامد، أخبرنا أبا مكي، أخبرنا أحمد بن منصور المروزي، حدّثنا علي ابن الحسن، حدّثنا أبو حمزة عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال: دخلت فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألته خادماً فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا أدلك على ماهو خير لك من ذلك أن تقولي: اللهم رب السماوات السبع ورب العرش العظيم، ربنا ورب كل شيء منزل التوراة والإنجيل والفرقان، فالق الحب والنوى أعوذ بك من شر كل شيء أنت أخذ بناصيته، أنت الأول فليس قبلك شيء وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء، اقضِ عنّا الدين وأغننا من الفقر».
{هُوَ الذي خَلَقَ السماوات والأرض فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ استوى عَلَى العرش} أخبرني ابن فنجويه، حدّثنا عمر بن الخطاب، حدّثنا عبد الله بن الفضل حدّثني أحمد بن وركان، حدّثنا علي بن الحسن بن شقيق قال: قلت لعبدالله بن المبارك: كيف نعرف ربنا عزّوجل؟ قال: في السماء السابعة على عرشه، ولا تقول كما قالت الجهمية: ههنا في الأرض.
وقد ذكرنا معنى الاستواء وحققنا الكلام فيه فأغنى عن الإعادة.
{يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأرض وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السمآء وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ} بالعلم والقدرة {أَيْنَ مَا كُنتُمْ والله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ * لَّهُ مُلْكُ السماوات والأرض وَإِلَى الله تُرْجَعُ الأمور * يُولِجُ الليل فِي النهار وَيُولِجُ النهار فِي الليل وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور * آمِنُواْ بالله وَرَسُولِهِ وَأَنفِقُواْ مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} مملّكين، معمرين فيه {فالذين آمَنُواْ مِنكُمْ وَأَنفَقُواْ لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ * وَمَا لَكُمْ لاَ تُؤْمِنُونَ بالله والرسول يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُواْ بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ} في ظهر آدم بان الله ربكم لا إله لكم سواه. قاله مجاهد.
وقيل: {أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ} بأن ركّب فيكم العقول وأقام الحجج والدلائل التي تدعو إلى متابعة الرسول.
وقراءة العامة: بفتح الهمزة والقاف.
وقرأ أبو عمرو بضمّهما على وجه ما لم يسمى فاعله. {إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ} يوماً من الأيام، فالآن أحرى الأوقات أن تؤمنوا لقيام الحجج والأعلام على حقيقة الإسلام وصحة نبوة المصطفى عليه السلام.


{هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (9) وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (10) مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ (11)}
{هُوَ الذي يُنَزِّلُ على عَبْدِهِ} محمد صلى الله عليه وسلم {آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِّيُخْرِجَكُمْ} الله بالقرآن، وقيل: ليخرجكم الرسول بالدعوة {مِّنَ الظلمات إِلَى النور وَإِنَّ الله بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ}.
{وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تُنفِقُواْ فِي سَبِيلِ الله وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السماوات والأرض} ثم بيّن سبحانه فضل السابقين في الانفاق والجهاد فقال عزّ من قائل {لاَ يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الفتح} يعني: فتح مكة في قول أكثر المفسرين.
وقال الشعبي: هو صلح الحديبية قال: وقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يا رسول الله أفتح هو؟ قال: «نعم عظيم» وقاتل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم {أولئك أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الذين أَنفَقُواْ مِن بَعْدُ} أي من بعد الفتح {وَقَاتَلُواْ}.
أخبرني عقيل أن المعافى أخبرهم عن محمد بن جرير حدّثني ابن البرقي، حدّثنا ابن أبي مريم أخبرنا محمد بن جعفر أخبرني زيد بن أسلم عن أبي سعيد التمار عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يوشك أن يأتي قوم تحقرون أعمالكم مع أعمالهم». قال: من هم يا رسول الله؟قريش.
قال: «لا هم أرق أفئدة وألين قلوباً» وأشار بيده إلى اليمن فقال: «هم أهل اليمن، ألا إن الإيمان يمان والحكمة يمانية» فقلنا: يا رسول الله هم خير منّا؟ قال: «والذي نفسي بيده لو كان لأحدهم جبل من ذهب ينفقه ما أدرك مدّ أحدهم ولا نصيفه» ثم جمع أصابعه ومدَّ خنصره فقال: «ألا إن هذا فضل ما بيننا وبين الناس لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل».
وروى محمد بن الفضل عن الكلبي أن هذه الآية نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وفي هذه الآية دلالة واضحة وحجة بيّنة على فضل أبي بكر بتقديمه لأنه أول من أسلم.
أخبرنا عبد الله بن حامد، أخبرنا أبو بكر، أخبرنا أحمد بن إسحاق الفقيه أخبرنا محمد بن أيوب، أخبرنا أبو الوليد الطيالسي، حدّثنا عكرمة بن عماد، حدّثنا شداد بن عبد الله أبو عمار وقد كان أدرك نفراً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: قال أبو امامة لعمرو بن عبسة بأي شيء تدّعي أنك ربع الإسلام؟ قال: إني كنت أرى الناس على الضلالة ولا أرى الأوثان شيئاً، ثم سمعت عن رجل يخبرنا أخبار مكة فركبت راحلتي حتى قدمت عليه، فإذا قومه عليه جرآء قال: قلت: ما أنت؟
قال: «أنا نبي». قلت: وما نبي؟ قال: «رسول الله».
قلت: بأي شيء أرسلك؟ قال: «أوحد الله ولا أشرك به شيئاً وكسر الأوثان وصلة الأرحام».
قلت: من معك على هذا؟ قال: حرّ وعبد. وإذا معه أبو بكر وبلال، فأسلمت عند ذلك فلقد رأيتني ربع الإسلام.
ولأنه أول من أظهر الإسلام:
أخبرنا أبو محمد الأصبهاني، أخبرنا أبو بكر الصعي، أخبرنا عبدالله بن احمد بن حنبل، أخبرنا أبي، حدّثنا يحيى بن أبي كثير، حدّثنا زائدة عن عاصم بن أبي النجود عن زر عن عبد الله ابن مسعود قال: كان أول من أظهر الإسلام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمار وأُمّه سمية وصهيب وبلال والمقداد.
ولأنه أول من قاتل على الإسلام:
أخبرنا أبو نصر النعمان بن محمد الجرجاني بها، أخبرنا أبو الطاهر محمد بن الحسن المحمدآبادي وحدّثنا أبو قلابة، حدّثنا يحيى بن أبي كثير، حدّثنا زائدة عن عاصم عن زر عن عبدالله بن مسعود قال: أول من أظهر الإسلام بسيفه النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رضي الله عنه. ولأنه أول من أنفق على رسول الله صلى الله عليه وسلم في سبيل الله.
أخبرنا عبدالله بن حامد، أخبرنا أحمد بن إسحاق بن أيوب، أخبرنا محمد بن يونس، حدّثنا العلا بن عمرو الشيباني، حدّثنا أبو إسحاق الفزاري، حدّثنا سفيان بن سعيد عن آدم بن علي عن ابن عمر قال: كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم وعنده أبو بكر الصديق وعليه عباءة قد خلّلها في صدره بخلال فقال: «أنفق ماله عليَّ قبل الفتح». قال: فإن الله عزّوجل يقول: إقرأ عليه السلام وتقول له: أراض أنت عني في فقرك هذا أم ساخط؟
فقال أبو بكر: أأسخط؟ إني عن ربي راض إني عن ربي راض.
ولهذا قدّمه الصحابة على أنفسهم وأقروا له بالتقدم والسّبق.
وأخبرنا عبد الله بن حامد، أخبرنا أبو بكر بن إسحاق، أخبرنا محمد بن يونس عقبة بن سنان، حدّثنا أبو بشر، حدّثنا الهيصم بن شداخ عن الأعمش عن عمرو بن مرّة عن عبدالله بن سلمة عن علي رضي الله عنه قال: سبق رسول الله صلى الله عليه وسلم وصلى أبو بكر وثلث عمر فلا أُوتي برجل فضلني على أبي بكر وعمر إلاّ جلدته جلد المفتري وطرح الشهادة.
{وَكُلاًّ وَعَدَ الله الحسنى والله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ * مَّن ذَا الذي يُقْرِضُ الله قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ}.


{يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ (13) يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (14) فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (15) أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (16)}
{يَوْمَ تَرَى المؤمنين والمؤمنات يسعى نُورُهُم} على الصراط {بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم}.
قال بعضهم: أراد جميع جوانبهم، فعبّر بالبعض عن الكل على مذهب العرب في الإيجاز، ومجازه: عن أيمانهم. وقال الضحّاك: أراد {يسعى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم} كتبهم.
وقرأ سهل بن سعد الساعدي: بإيمانهم بكسر الهمزة، والقراءة الصحيحة ما عليه العامة، وأراد بالنور: القرآن.
قال عبد الله بن مسعود: يؤتون نورهم على قدر أعمالهم فمنهم من يأتي نوره كالنخلة ومنهم من يؤتي نوره كالرجل القائم وأدناهم نوراً على إبهامه فيطفأ مرة ويقد مرة.
وقال قتادة: ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: «من المؤمنين من يضيء نوره من المدينة إلى عدن أبين وصنعاء ودون ذلك، حتى إن من المؤمنين من لا يضيء نوره موضع قدميه، وتقول لهم الملائكة: {بُشْرَاكُمُ اليوم جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الفوز العظيم}».
{يَوْمَ يَقُولُ المنافقون والمنافقات لِلَّذِينَ آمَنُواْ انظرونا} قرأة العامة: موصولة أي انتظرونا.
وقرأ يحيى والأعمش وحمزة: {أنظرونا} بفتح الألف وكسر الظاء أي أمهلونا.
وقال الفراء: تقول العرب: أنظرني أي إنتظرني، وأنشد في ذلك بيت عمرو بن كلثوم:
أبا هند فلا تعجل علينا *** وانظرنا نخبرك اليقينا
قال: يعني انتظرنا.
{نَقْتَبِسْ} نستضيء {مِن نُّورِكُمْ} قال المفسرون: إذا كان يوم القيامة أعطى الله تعالى المؤمنين نوراً على قدر أعمالهم يمشون به على الصراط، وأعطى المنافقين الضالّين كذلك خديعة لهم وهو قوله عزّوجل {وَهُوَ خَادِعُهُمْ} [النساء: 142].
وقال الكلبي: بل يستضيء المنافقون بنور المؤمنين ولا يعطون النور.
قالوا فبينما هم يمشون إذ بعث الله تعالى ريحاً وظلمة فأطفأ نور المنافقين، فذلك قوله عزّ وجل {يَوْمَ لاَ يُخْزِى الله النبي والذين آمَنُواْ مَعَهُ نُورُهُمْ يسعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَآ أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا} [التحريم: 8] مخافة أن يُسلبوا نورهم كما سلب المنافقون، فإذا بقي المنافقون في الظلمة قالوا للمؤمنين {انظرونا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ قِيلَ ارجعوا وَرَآءَكُمْ} من حيث جئتم {فالتمسوا} فاطلبوا هناك لأنفسكم {نُوراً} فإنه لا سبيل لكم إلى الاقتباس من نورنا {فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ} أي سور والباء صلة، عن الكسائي. وهو حاجز بين الجنة والنار {لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرحمة} يعني الجنة {وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ} أي من قبل ذلك الظاهر {العذاب} وهو النار.
أخبرني ابن فنجويه، حدّثنا أحمد بن ماجة القزويني، حدّثنا محمد بن أيوب الرازي، حدّثنا موسى بن إسماعيل قال: وأخبرني ابن حمدان، حدّثنا ابن ماهان، حدّثنا موسى بن إسماعيل حماد عن أبي سنان قال: كنت مع علي بن عبد الله بن عباس عند وادي جهنم فحدّث عن أبيه وقرأ {فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ} الآية ثم قال: أي هذا موضع السور، يعني وادي جهنم.
وأخبرني ابن فنجويه، حدّثنا أحمد بن محمد بن إسحاق السني أخبرني أحمد بن عمير بن يوسف، حدّثنا عبد السلام بن عتيق، حدّثنا أبو مسهر، حدّثنا سعيد بن عبد العزيز عن عطية بن قيس حدّثني أبو العوام مؤذن أهل بيت المقدس عن عبد الله بن عمرو قال: إن السور الذي ذكر الله عزّوجل في القرآن {فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرحمة وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ العذاب} سور مسجد بيت المقدس الشرقي باطنه من المسجد وظاهره من قبله {العذاب} الوادي: وادي جهنم.
وأخبرني ابن فنجويه، حدّثنا السني، حدّثنا أبو يعلي الموصلي حدّثنا أبو نصر التمار، حدّثنا سعيد بن عبدالعزيز، عن زياد بن أبي سودة أن عبادة بن الصامت قام على سور بيت المقدس الشرقي فبكى. فقال بعضهم: ما يبكيك يا أبا الوليد؟ فقال: من هاهنا أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه رأى جهنم.
وأخبرني عقيل أن أبا الفرج حدثهم عن محمد بن جرير حدّثني محمد بن عوف، حدّثنا أبو المغيرة، حدّثنا صفوان، حدّثنا شريح أن كعباً يقول في الباب الذي يسمى باب الرحمة في بيت المقدس أنه الباب الذي قال الله عزّوجل {فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ} الآية.
{يُنَادُونَهُمْ} يعني ينادي المنافقون المؤمنين حين حجز بينهم بالسور، فبقوا في الظلمة والعذاب، وصار المؤمنون في النور والرحمة {أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ} في الدنيا نصوم ونصلي ونناكحكم ونوارثكم؟ {قَالُواْ بلى ولكنكم فَتَنتُمْ} أهلكتم {أَنفُسَكُمْ} بالنفاق {وَتَرَبَّصْتُمْ} بالأيمان.
وقال مقاتل: بل تربّصتم بمحمد الموت وقلتم: يوشك أن يموت محمد فتستريح {وارتبتم} شككتم في التوحيد والنبوة {وَغرَّتْكُمُ الأماني} للأباطيل.
وقال أبو بكر الورّاق: طول الأمل.
أخبرني الحسين، حدّثنا ابن حمدان، حدّثنا يوسف بن عبدالله، حدّثنا مسلم بن أدهم حدّثنا همام بن يحيى، حدّثنا إسحاق بن عبدالله بن أبي طلحة عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خط خطوطاً وخط خطاً منها ناحية فقال: «تدرون ما هذا؟ هذا مثل ابن آدم ومثل التمني، وذلك الخط الأمل بينما هو يتمنى إذ جاءه الموت».
وأخبرنا الحسين، حدّثنا الكندي، حدّثنا أبو عيسى حمزة بن الحسين بن عمر، حدّثنا يحيى بن عبد الباقي، حدّثنا عمرو بن عثمان، حدّثنا الوليد بن مسلم عن الأوزاعي عن بلال بن سعد قال: ذكرك حسناتك ونسيانك سيئاتك غرّة.
{جَآءَ أَمْرُ الله} يعني الموت {وَغَرَّكُم بالله الغرور} أي الشيطان. وقرأ سماك بن حرب: بضم الغين يعني الأباطيل.
قال قتادة: كانوا على خدعة من الشيطان وما زالوا عليها حتى قذفهم الله في النار.
{فاليوم لاَ يُؤْخَذُ مِنكُمْ فِدْيَةٌ} بدل وعوض.
قراءة العامة يؤخذ بالياء.
وقرأ ابن عامر والحسن وأبو جعفر ويعقوب بالتاء واختاره أبو حاتم.
{وَلاَ مِنَ الذين كَفَرُواْ} يعني المشركين {مَأْوَاكُمُ النار} أي صاحبتكم وأولى بكم وأحق بإن تكون مسكناً لكم.
قال لبيد:
فعذب كلا الفريقين بحسب أنه *** مولى المخافة خَلَقَها وإمامها
{وَبِئْسَ المصير * أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمنوا} الآية. قال الكلبي ومقاتل: نزلت في المنافقين بعد الهجرة بسنة، وذلك أنهم سألوا سلمان الفارسي ذات يوم فقالوا: حدّثنا عمّا في التوراة فإن فيها العجائب، فنزلت الآية {تِلْكَ آيَاتُ الكتاب المبين} [يوسف: 1] إلى قوله: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ القصص} [يوسف: 3] فخبّرهم بأن هذا القرآن أحسن من غيره وأنفع لهم، فكفّوا عن سؤال سلمان ما شاء الله ثم عادوا فسألوا سلمان عن مثل ذلك فنزلت {الله نَزَّلَ أَحْسَنَ الحديث} [الزمر: 23] الآية. فكفّوا عن سؤال سلمان ما شاء الله ثم عادوا أيضاً فسألوا فقالوا: حدّثنا عن التوراة فإن فيها العجائب، ونزلت هذه الآية.
فعلى هذا القول يكون تأويل الآية {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمنوا} في العلانية واللسان.
وقال غيرهما: نزلت في المؤمنين.
قال عبد الله بن مسعود: مَلَّ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله لو حدّثتنا فأنزل الله عزّوجل {الله نَزَّلَ أَحْسَنَ الحديث} [الزمر: 23] الآية.
فقالوا: يا رسول الله لو قصصت علينا فأنزل الله عزّوجل {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ القصص} [يوسف: 3] الآية.
فقالوا: يا رسول الله لو ذكّرتنا ووعظتنا. فأنزل الله عزّوجل هذه الآية.
وقال ابن مسعود: ما كان بين إسلامنا وبين أن عوتبنا بهذه الآية إلاّ أربع سنين، فجعل المؤمنون يعاتب بعضهم بعضاً.
وقال ابن عباس: إن الله تعالى استبطأ قلوب المؤمنين، فعاتبهم على رأس ثلاث عشرة سنة من نزول القرآن، فقال: {أَلَمْ يَأْنِ} يحن {لِلَّذِينَ آمنوا أَن تَخْشَعَ} ترق وتلين وتخضع {قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ الله وَمَا نَزَلَ}.
قرأ شيبة ونافع وعاصم برواية المفضل وحفص: خفيفة الزاي، غيرهم: مشددة.
{مِنَ الحق} وهو القرآن، قال مجاهد: نزلت هذه الآية في المتعرّبين بعد الهجرة.
أخبرنا عبد الله بن حامد، حدّثنا محمد بن خالد، حدّثنا سليمان بن داود، حدّثنا عبد بن حميد، حدّثنا يزيد بن هارون، حدّثنا الحسام بن المصك عن الحسن عن شداد بن أوس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أول ما يرفع من الناس الخشوع».
{وَلاَ يَكُونُواْ} يعني وألاّ يكونوا، محله نصب بالعطف على {تَخْشَعَ} قال الأخفش: وإن شئت جعلته نهياً فيكون مجازه: ولا يكونن، ودليل هذا التأويل رواية يونس عن يعقوب أنه قرأ: {ولا تكونوا} بالتاء.
{كالذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلُ} وهم اليهود والنصارى. {فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأمد} الزمان والدهر والغاية بينهم وبين أنبيائهم {فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ}.
روى الأعمش عن عمارة بن عمير عن الربيع بن عُميلة، حدّثنا عبد الله حدّثنا، ما سمعت حدّثنا هو أحسن منه إلاّ كتاب الله عزّوجل أو رواية عن النبي صلى الله عليه وسلم أن بني إسرائيل لما طال عليهم الأمد قست قلوبهم فاخترعوا كتاباً من عند أنفسهم استهوته قلوبهم واستحلته أنفسهم، وكان الحق يحول بينهم وبين كثير من شهواتهم حتى نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون، فقالوا: إعرضوا هذا الكتاب على بني إسرائيل فإن تابعوكم فأتركوهم، وإن خالفوكم فاقتلوهم، ثم قالوا: لا بل أرسلوا إلى فلان رجلا من علمائهم فاعرضوا عليه الكتاب فإن تابعكم فلن يخالفكم أحد بعده وإن خالفكم فإقتلوه فلن يختلف عليكم بعده أحد.
فأرسلوا إليه، فأخذ ورقة فكتب فيها كتاب الله عزّوجل ثم جعلها في قَرن ثم علّقها في عنقه، ثم لبس عليه الثياب، ثم أتاهم فعرضوا عليه الكتاب فقالوا: أتؤمن بهذا؟ فأومأ إلى صدره فقال: آمنت بهذا، ومالي لا أومن بهذا؟ يعني الكتاب الذي في القَرن، فخلّوا سبيله.
وكان له أصحاب يغشونه، فلما مات نبشوه فوجدوا القَرن ووجدوا فيه الكتاب، فقالوا: ألا ترون قوله: آمنت بهذا، ومالي لا أوُمن بهذا؟ إنما عني هذا الكتاب؟ فاختلف بنو إسرائيل على بضع وسبعين ملة، وخير مللهم أصحاب ذي القَرن.
قال عبد الله: وإن من بقي منكم سيرى منكراً، وبحسب أمرى يرى منكراً لا تستطيع أن يغيره أن يعلم الله من قلبه أنه له كاره.
وقال مقاتل بن حيان: إنما يعني بذلك مؤمني أهل الكتاب قبل أن يبعث النبي صلى الله عليه وسلم {فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأمد} يعني خروج النبي صلى الله عليه وسلم {فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ} يعني الذين ابتدعوا الرهبانية أصحاب الصوامع، ثبتت طائفة منهم على دين عيسى حتى بعث النبي صلى الله عليه وسلم وآمنوا به، ومنهم طائفة رجعت عن دينها وهم الذين فسّقهم فكفروا بدين عيسى ولم يؤمنوا بمحمد عليه السلام.
وقال محمد بن كعب: كانت الصحابة بمكة مجدبين، فلما هاجروا أصابوا الريف والنعمة ففتروا عمّا كانوا فيه، فقست قلوبهم، فينبغي للمؤمنين أن يزدادوا إيماناً ويقيناً وإخلاصاً في طول صحبة الكتاب.
أنبأني عبد الله بن حامد، أخبرنا أبو عبد الله محمد بن العباس الضبّي، أخبرنا أبو جعفر محمد بن عبدالله النيّري، حدّثنا أبو سعيد الأشج، حدّثنا أبو خالد الأحمر، عن ابن عجلان، عن وائل بن بكر قال: قال عيسى عليه السلام: «لا تكثروا الكلام بغير ذكر الله فَتقسوَ قلوبكم فإن القلب القاسي بعيد من الله ولكن لا تعلمون، ولا تنظروا في ذنوب العباد كأنكم أرباب، وانظروا في ذنوبكم كأنكم عبيد فإنما الناس رجلان مبتلى ومعافى، فارحموا أهل البلاء واحمدوا الله على العافية».
أخبرنا أبو الحسن عبدالرحمن بن إبراهيم بن محمد بن يحيى، حدّثنا أبو عبد الله المقرئ قال: سمعت أبا الحسن محمد بن إسحاق بن إبراهيم الحنظلي يقول: سمعت أبا عمار الحسين ابن حريث يقول: سمعت الفضل بن موسى السيناني يقول: كان سبب توبة الفضل بن عياض أنه عشق جارية فواعدته ليلا، فبينما هو يرقى الجدران إليها إذ سمع قارئاً يقرأ {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمنوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ الله} فرجع القهقرى.
وهو يقول: بلى فلان بلى والله فلان. فأواه الليل إلى خربة وفيها جماعة من السابلة، وإذا بعضهم يقول لبعض بالفارسية: فضيل بدر أهست در ما راه بُرّذ.
فقال الفضيل في نفسه: الا أراني أسعى بالليل في المعاصي وقوم من المسلمين يخافونني؟ اللهم إني قد تبت إليك، وجعلت توبتي إليك جوار بيتك الحرام.
ثم أقبل عليهم فقال لهم بالفارسية: منم فضيل كناه كار أز من ترسيد يدأكنون مترسيد.
قال الفضل بن موسى: ثم خرج فجاور.
وحدّثنا أبو سعد بن أبي عثمان الزاهد، أخبرنا أبو الفضل أحمد بن أبي عمران بمكة، حدّثنا أبو يعقوب البزاز، حدّثنا محمد بن حاتم السمرقندي، حدّثنا أحمد بن زيد، حدّثنا حسين ابن الحسن قال: سئل ابن المبارك وأنا حاضر عن أول زهده فقال: إني كنت في بستان، وأنا شاب مع جماعة من أترابي، وذلك في وقت الفواكه، فأكلنا وشربنا وكنت مولعاً بضرب العود فقمت في بعض الليل، فإذا غصن يتحرك عند رأسي فأخذت العود لأضرب به فإذا بالعود ينطق وهو يقول: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمنوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ الله} قال: فضربت بالعود الأرض فكسرته وصرفت ما عندي من جميع الأمور التي كنت عليها مما شُغلت عن الله، وجاء التوفيق من الله عزّ وجل فكان ما سُهل لنا من الخير بفضل الله.

1 | 2